-I-
روح الصحراء
تُفَسّر إحدى الأساطير الرّائعة سببَ بقاء الروح الطّوارقيّة متجذّرةً فيالصحراء.
لطالما كانت الصحراءُ نقطة عبورٍ هامّة. حدثت هذه القصّة في حقبةٍ كانتفيها الشعوبُ كافةً بدويةً
تبحث عن أرض ملاذها. وعند عبور الصحراء،كانوا يمثلون بين يديها ويقولون:
_ نريد أن نعيش في الصحراء.
فتجيبهم الصحراء:
- حرّي شديدٌ.
- لا يهمّنا هذا.
- أنا باردة وبردي قارس.
- لا نكترث بهذا أيضاً.
- ليس لديّ ما يكفي من الماء.
عندها كانت الشعوبُ تنسحب بصمت وتصل شعوبٌ أخرى ويتكرّر معهاالحوار ذاته دائماً.
حين كانت الصحراءُ تستحضرُ رياحَها، صمتَها أو ضوءها كانت الشعوبتهرب.
في أحد الأيام، طرح الطوارق أسئلتهم على الصحراء. فذَكَّرَتهم بجميعالمخاوف التي تمثلها هذه الأرضُ،
شّديدةُ العدوانيّة بالنسبة للحياة البشرية.
- هنا يوجد ضوء باهر.
- لدينا عمائمنا.
- الطقس شديد البرودة.
- لدينا عباءاتنا .
- لا يسقط المطر .
- لدينا الآبار والقِرَب.
- أنا صمتٌ رهيب.
- ما زال في قلوبنا متسع.
- ماذا تنتظرون منّي؟
- نريد السلام.
- هو لكم.
- والقوة على مجابهة أعدائنا.
- هي لكم.
وبهذا خُتمت المعاهدة بين الصحراء والطوارق. وهي معاهدة سارية المفعولحتى الآن.
إذا ما أراد أحدٌ أن يُقاتل الطوارق، عليه ألاّ يذهب لملاقاتهم في الصحراء لأنه سيخسر.
ما من أحد يعرف الصحراء مثلهم. إن روحها تحميهم.
-II-
عيشة كلاب
لا أنفك أراقب هؤلاء العابرين مع كلابهم، هؤلاء الرجال ذوي السيور.
شاهدتُ يوماً سيّدة تتحدّث طويلاً مع كلابها الأربعة. فلم أستطع إلا أن أتصوّروجود مشكلة إنسانيّة حقيقيّة.
كلاب لملء الوحدة! لماذا لا تتبنّى طفلاً؟ اقتربت لأكلّمها فأجابتني بأنّ كلابها هي أصدق رفاقها.
كانت بحاجة لوجودهم. حتى أنّ واحداً منها ينام معها في فراشها كلّ ليلة. وحين تمرض، يجثو فوقها،
فوقَمكان الألم. دِفئه يخفّف من ألمها. تظلّ فكرة البحث في كلب عمّا يمكن أن يمنحه شخصٌ آخر مستغربة.
لقد أغرقت الفردانيّة الناسَ في وحدة شديدة تجعلهم يلجؤون إلى العروض السينمائية. أخبرتني تلك السّيدة:
كلبي الصغير عبارة عن قلب مشعر.
لقد عثرت على حبّها الكبير. أين عائلتها؟ أولادها؟ أين جيرانها؟ أيّ فراغٍ مريع تملأ هذه الحيوانات؟
كثيراً ما جعلتني أنسنةُ الحيوانات بهذه الطريقة أضحك
حتى جاء يوم شاهدتُ فيه امرأة جميلة تقبّل كلبها من فمه. كانت المرّة الأولى في حياتي التي أحسد فيها كلباً!
-III-
حكيم الرّوح
فوجئت لمّا عرفت أنّ أناساً أصحّاءَ يقصدون الطبيب بشكلٍ دوريّ.
أدركت بعد ذلك بزمنٍ طويل، بأنهم يقصدون أطباء نفسيين ليشفونهم من مرض ما خفيٍّ يأكل فيهم.
ذهلت حين عرفت تكلفة الجلسة.
الناس مستعدّون لأن يدفعوا ما يفوق معاش شهر في الصحراء في سبيل أن يجدوا من يسمعهم حين يتكلّمون.
في تلك اللحظة أدركت كم هو حيويّ بالنسبة للإنسان أن يجدمن يستَمع إليه.
لطالما بدا لي أمراً طبيعيّاً مع أنه يبدو هنا ثمرةً نادرة. عندما لايسير أمر على ما يرام عند الطوارق،
نمضي الليل بطوله أمام النار للحديث عنه، ونذهب إلى الخيمة المجاورة بحثاً عن شخص نثق به.
أمراضنا لاتتواجد وحيدةً قط.
حتى الآن لا أفهم مصدر هذا الكم الهائل من المعاناة التي تدفع الناس للبحث عن غريب
يدفعون له كي يشفيهم من مرضهم الذي يعانون منه. ما الذي يولّدضيقاً هائلاً بهذا الشكل؟
ما يهدّئ من روعي نوعاً ما هو أنّ جميع أولئك الأشخاص يدركون القوّةالمقدسة للكلمة التي تُنمّي كينونتنا.
في الصحراء ليس هناك انتحار لأنّ تلك الأرض تعيش مع الموت. إنها أكثرالأماكن المعادية للبشر.
في كلِّ يومٍ يشنون معركة ضدّ الطبيعة. جسداً بجسد معها. مند ولادتنا نتعلّم الصراع من أجل الحياة.
دافعنا الوحيد للحياة هو الحياة بحدّ ذاتها.
ذات يوم، سألني أحدُ أصدقائي السّؤال التالي:
-ما نفعي؟ وأجاب هو بنفسه:
- لن أنفع في شيء أبداً.
كان يشعر بأنه عديم النفع. في الصحراء، جميعنا ننفع في أمر ما لأننا لا نبتغي التفوّق على الطبيعة،
وإنما فقط العيش وفقاً لها.
لماذا سيرغب رجلٌ بالموتوجلّ ما يفعله في حياته هو السير بغيةَ إطعام قطيعِهِ وعائلته؟
أظنُّ أنّ إحدى أشدّ القدرات قوّة هي أن نعيش منسجمين مع أنفسنا.
على المرء أن يتّفوق على نفسه كي يكون هو نفسه وليس لكي يظفر.
أتذكر ذلك في عام ١٩٩١، حين عانت المنطقة من التّمرّد الطوارقيّ الذي جلب الكثير من الدّمار لبعض الوقت
كنتُ أعمل آنذاك في عدّة أشغال في غاوحين وصلنا صوت إطلاق نارٍ كثيف.
بقينا جميعاً بلا حراك نتنبأ بمأساةٍ جديدة. لقد أسقط الجيش للتو عشرة طوارق.
بلغنا الأمرُ فوراً لأنّ العسكرقاموا بتقطيع أعدائهم
وراحوا يعرضون بين أذرعهم قطعهم في أنحاء المدينةكلّها.
كان من المستحيل عليّ أن أفهمَ كيف يمكن لكائن بشري أن يصل إلى هذا.
في ذلك اليوم، تغيّرت نظرتي. لم أعد بعدها الشابَّ السّاذج الذي يؤمن بجماليّة الحياة.
وظلت نظرتي للعالم منذ تلك اللحظة ملطّخةً بالدّم. ومن حينها بقي الدّميؤطّرُ نظرتي للحياة.
ما زلت أكافحُ يوميّاً لأمحوها.
حتى في أسوأ لحظات الوحدة والمعاناة، لم تخطر ببالي فكرة الموت قط لأننيأومن بالله، بالبشر وبالحياة.
-IV-
البحر، صحراء الماء
كنت أرغب برؤية البحر.
عندما كانوا يحدّثونني عنه، لم أكن أصدّق أنّ شيئاً مماثلاً يمكن أن يكون لهوجود. ماء ممتد على مدّ النظر.
هل هذا ممكن؟
عندما رأيته للمرة الأولى، أردتُ أن أبقى بمفردي معه. إنه لمن المؤثّر جداً أني جد فتى من الصحراء،
قضى حياته بحثاً عن الماء، نفسه أمام هذا القدرالهائل منه. شاهدته من منعطفٍ في الطريق.
كان هناك ثائراً عملاقاً يفوقالسماء جمالاً. اقتربت منه متأثّراً وانحنيت لأشرب،
فنلت عاقبة طيشي: هذاالماء يسبب العطش. إنه مالح.
ظننت بأني سأنفجر بكاءً.
فقد راعني ألا يفيد كلهذا الماء في إطفاء العطش وأنه حتى في وسط البحر يمكن أن يموت المرءظمآناً.
هذا البحر مثل الصحراء أيضاً...
استمتعت كثيراً بشعور لم أعهده من قبل وأنا أسبح في مكان بهذا الاتساع.
سبحت لوقتٍ طويل وعدت لألتقي بالطّفل الذي كنتُه، ذاك الذي لم يكفّ عنمحاولة بلوغ الأفق.
كنت أعرف أنّ الأمر مستحيل،
غير أنّني كنتُ أستمتع به.وعند عودتي، قبَّلتُ الرّملَ الذي يستحضر فيّ الكثير من الذكريات.
ما أزال مقتنعاً تماماً بأننا لن نشعر قط بأنّنا منفيون إذا ما عرفنا كيف نعثرُعلى أماكن تحدّثنا عن جذورنا.
[عن "تدوين". ترجمة مها عطفة]
موسى أساريد كاتب طوارقي يعيش في باريس، وهو يلقي الضوء في كتاباته على أزمة الهوية والمشاعر والأفكار المتولدة عن تأمل الفرق بين الحياة في أوربا والحياة في الصحراء، في عالم الطوارق القائم على الصراع من أجل الاستمرار في بيئة قاسية. والنصوص الثلاثة اختيرت من كتابه “لا ازدحام في الصحراء” الذي تصدر ترجمته العربية قريباً.
موسى أساريد، والذي هو نفسه الراوي في هذا العمل، ولد شمال مالي عام1975. في الثالثة والعشرين من عمره سافر الشاب الطوارقيّ إلى فرنسا.وبينما هو في حركةٍ دائمة واهتمام بمعرفة الناس، يصف موسى انبهاره وحيرته أمام العالم الغربي الذي يبدأ باكتشافه: طبيعته وشعبه وعاداته وكل ما لا يراه الغربي بحكم اعتياده عليه.
إنّ التعليقات والنوادر التي يقصها، مثل سرير الفندق الكبير لدرجة أنّه يمكن أن يتسع لينام فيه جميع أولاد خيمته، ومعجزة الماء الذي يخرج من الصنابير، وسحر السلالم الآلية والأبواب الأوتوماتيكية مسلية ومؤثّرة، وهي بالإضافة إلى ذلك واضحة، ولا تخفي الخيبة في بعض الأحيان من أمورٍ مثل ضيق الوقت وفقدان الحميمية والتواصل الإنساني.